الأربعاء، ٢٠ أغسطس ٢٠٠٨

أطفال، فلاسفة

أطفال ، فلاسفة

مقال فى الفينومينولوجيا

بقلم : ميلاد سليمان
المدينة المثالية "الجمهورية" كما قدمها أفلاطون تطلبت أن يكون الفلاسفة حكامها، أو يتحول الحكام إلى فلاسفة. بينما طالب هيراقليطس من حكام أفسس أن يشنقوا أنفسهم ويتركوا حكم المدينة للأطفال. ولن ندخل هنا فى غمار الفلسفة السياسية، ولا عن صفات الحاكم. بل ما يعنينا هو السؤال الأتى: لم الأطفال والفلاسفة هم الأجدر بالحكم؟
إنها "الدهشة"، نعم فالفيلسوف/ الطفل تتفتح عيناه على الواقع -أغلب الوقت- دون أى أفكار أولية أو أحكام مسبقة على ما يتناوله ليبدأ بتمثل ذلك الواقع فى محاولة لاستيعابه. ولنبدأ بالطفل؛ فهو يولد وعقله صفحة بيضاء –حسب أحد الآراء- لم يُخط فيها أى ملاحظة، ثم يبدأ فى تشكيل وعيه وفق ما يصل من الخارج فى صورة أجسام، أصوات، أشكال، أو حسب ما يُلقَن له أى "التربية". أما عن ما قبل التربية، فهنا تكمن الفينومينولوجيا!!؟
الفينومينولوجيا هى ما يظهر فى الذات عند تمثلها لظاهرة معينة فتدرِك –حدسيا- ماهيتها، دون واسطة عقل أو حواس بل لقاء حي بين الذات وموضوعه قائم على التوجه والقصدية. ثم تتراكم الخبرات لديه –الفيلسوف/ الطفل- فيتولد الوعى بها ولها فى محاولة لفهم وتنظيم وإعادة تنسيق ما تعطيه الظاهرة لنا فى كل لقاء مراوح معها مرتبط بآنيته وآنيتنا فى لحظة واحدة.
والسؤال هو: هل الطفل يقوم بكل ذلك؟ هل لديه القدرة على فعل هذا الأمور؟
الإجابة هى نعم، فالطفل –أى طفل- قبل أن يبلغ السادسة حيث القدرة على النطق والكتابة. يكون على وعى بكل ما حوله، يتأمل الواقع بعين صافية لم تطمسها غشاوة المناهج، ولم توضع داخله القوانين الإلزامية بالصدق والكذب والأطر المؤطرة للواقع. فعندما يرى مثلا قطة سوداء فهو يصدر صوت، هو على الخلاف من رؤيته لقطة بيضاء أو لكلب فى الشارع أو أحد أخوته أو والديه. فالطفل دائم الحركة والاكتشاف والمهارات المتجددة القائمة على "الحُنكَة السرنديبية". وإلى جوار الأصوات التى يخصصها لكل شىء مادى أو معنوى فى واقعه والتى يميز من خلالها الخبرات الداخلة لوعيه. وأن كان لا يقدر على التجريد بعد. يصنف بعض الحركات المؤثرة فى من حوله لدى تقابله مع أى حدث مما يلقاه فى يومه. فعند رؤيته لكلب يقول:"هع عو عو" فنرد فى تلقائية "نعم انه عو". ونُبدى استياء من ذلك، فى حين يجب مشاركته فرحته الاكتشافية. فهذا الكلب بالنسبة لنا أصبح شىء عادى، نراه كل يوم، لا يدهشنا. على عكس الطفل. الذى لم يأخذ على التنميط وبالتالى يندهش لأى شىء، ويتوقع أى شىء، ولا يخشى شىء. ولكن لعجز قدرته على الكلام والكتابة والتجريد والتعميم، يقنع بما يخبره له الآخرون عن الواقع، والحياة من حوله، فيُنيَر بحدود الدوجما، ويغوص فى أغوار الكهف. الطفل يرى كل يوم أشياء لم يعرف معناها بعد: والدته تضع الدجاج فى الصندوق ليخرج منه مختلف اللون والطعم والرائحة، وأخته تخاطب طوال اليوم الصندوق الأبيض الملون الموضوع على المكتب، ووالده يتطابق كل يوم مع والدته على السرير.. دون أن يعي –الطفل- أى فكرة عما يدور حوله.. دون أن يملك القدرة على أن يُعّرِف ما حدث. وعندما يمتلك القدرة على التوضيح والنطق بما كان يَخْبُره كل يوم يكون للآسف قد نُمطَت حياته وفق العادات والتقاليد، والصواب والخطأ، والحلال والحرام. راضخاً لما يراه الأهل، والمجتمع، والدولة. فيظل كاتم للسر الدفين، والذى تعلوه مع الوقت ترسبات الواقع المفروض منتظراً إلى حين.
أما الفيلسوف فهو يقوم بإسقاط كل ما علَّمه له الأهل والمجتمع والدولة. ليطلق لفكره العنان، يتجول فى الواقع فى لقاء معيش حي، معلقاً الحكم على ما لقاه من ذى قبل. ليبدأ خبراته الجديدة معه. يسعى من خلال التجريد والعودة للأشياء ذاتها، والبدء بالماهيات دون التصورات، لأجل إقامة المجتمع على أسس صورية ذاتية، قائمة على عمومية الوعى، ووحدة المشكلة، يتمثل ما حوله، وكأنه جراح مُمسِك بالمبضع ليبتر الأورام، ويلقح الأعضاء الميتة بدماء الخبرة المتمثلة للأزمة. فيخرج فكره مطابقاً للواقع، قُدّ عليه. التعالى إلى الداخل فى حوار مع الظاهرة، الواقفة فى العراء، دون خبرات سابقة، مجرد لقاء حي قائم على التساؤل والدهشة والتأمل المنعكس داخل الذات تجاهها. والتى توصل إلى فهم آنى صحيح.

الطفل والفيلسوف، هما صابوران الواقع والمجتمع، وثقليه المتجاوران، والحافظان لتوازنه. إذا التفت المجتمع لأهمية دورهما فيه. الطفل يصير فيلسوفاً، الفيلسوف يصير طفلاً. البدء من أيهما ليست المشكلة، بل الدور الفعّال هو الأهم. الكلمة المسموعة، والرأى المناقش فى حرية، والحوار الحر هو ما سيحيل إلى التطور الفاعل فى المجتمع. الدهشة وجدِت ووجدَت معها من سَمعْ لصوتها الغير منطوق، صوت الرمز. والذى يتلقاه كل فرد بحسب استعداده الكامن.
ميلاد سليمان
ملتقى دروب الفكرى