الجمعة، ١٨ سبتمبر ٢٠٠٩

ما فوق مبدأ اللذة


بقلم : أمير زكى


كتاب (ما فوق مبدأ اللذة) هو أحد أهم كتب رائد التحليل النفسى الشهير سيجموند فرويد ، ويناقش فيه مفاهيم مثل (مبدأ اللذة ، إجبار التكرار ، وغريزتى الحب والموت) ، السطور التالية تعرض الكتاب الذى صدر عام 1914 وترجم إلى العربية بواسطة اسحق رمزى .

* مبدأ اللذة

يبدأ فرويد الكتاب بالتأكيد على محورية مبدأ اللذة (السعى نحو اللذة) بالنسبة للحياة النفسية للفرد ، فالعملية النفسية تبدأ بنوع من التوتر المؤلم الذى يسعى المرء للتخفف منه ليحظى باللذة .

مبدأ اللذة إذن – من هذا المنطلق – يحاول الحفاظ على نمط ثابت من الاستثارة .

ولكن مبدأ اللذة يعارضه ويمنعه من العمل بشكل مطلق مبدأ آخر هو مبدأ الواقع ، فالأنا ( الأنا – وفقا للتحليل النفسى - هو مجموع العمليات النفسية الذاتية للإنسان ، وهو يكون فى موقف وسط بين الهو : مجموع الغرائز الإنسانية ، والأنا الأعلى : الضمير ونظرة الواقع والآخرين ، والأنا يكون واعيا بالمفهومين الأخيرين ويسعى للتوفيق بينهما) يعرف أن السير فى طريق اللذة إلى النهاية قد يسبب خطورة من قبل الواقع ، فيلتزم بالواقع بأن يؤجل لذته بغية الحصول عليها فى وقت لاحق ، وهذا هو الكبت .

والمكبوتات تحاول الظهور بأشكال مختلفة فى نطاق الوعى أو الشعور . ولكن فرويد يرى أن عمليات كبت اللذة (بالتالى التألم الذاتى الاختيارى) لا تفسر فقط بمبدأ الواقع ، فهل هناك مفهوم أو مبدأ آخر يفسر لجوء الإنسان للألم ، أو فلنسأل سؤالا آخر ، هل الإنسان حقا يرغب فى أن يتألم ؟

***

الشائع فى التحليل النفسى أن الأحلام تتم صياغتها من قبل العقل لتحقيق رغبة مكبوتة ، أو للحفاظ على حالة النوم عند الإنسان بأن تهون من شأن المثيرات الخارجية ، ولكن فرويد فى دراسته للمرضى المصابين بعصاب الصدمة (وهو مرض نفسى يظهر لدى من تعرضوا لحوادث مؤلمة كصدمة سيارة أو قطار ، وأيضا لمصابى الحروب ، والكتاب صدر بعد الحرب العالمية الأولى) وجد أن المرضى يحلمون بما يذكرهم بهذه الصدمات ، فرويد أراد أن يناقش ذلك بشكل أوسع من كونه مجرد مازوخية (التلذذ بالتعذيب الجنسى للنفس ، وامتد المفهوم مع التحليل النفسى ليكون التلذذ بتعذيب النفس بشكل عام) .

يناقش فرويد أيضا حالة طفل ، كانت أمه تتغيب عنه بشكل دائم ، وكان يبدو على الطفل أنه يتقبل ذلك ، ولم يكن الطفل مزعجا ، بل كان هادئا جدا ، وكانت لعبته الأساسية هى أن يلقى بالأشياء التى ينالها بعيدا ، حتى يعيدها له الآخرون ، فرويد قال إن هذه اللعبة كانت تمثيلا لغياب الأم ، هذا الأمر الذى كان يؤلمه – على غير ما يبدى - ، فكأنه بإلقاءه الأشياء بعيدا كان ينتقم لغياب أمه ، وكأنه يقول لها : إذهبى ، فإن غيابك لا يهمنى ، أنا لا أريدك . وكان يكرر الالقاء والاستعادة بتلذذ ، كما كان يتكرر غياب الأم وعودتها .

والطفل الذى يتعرض لعملية جراحية (أو حتى الذى ينال حقنة) ، وهى خبرات مؤلمة بالنسبة له ، يعود ويمارس هذه الخبرات كألعاب على الأطفال الآخرين .

ثم يتحدث فرويد عن الكبار ، وكيف أن معظمنا يتلذذ بمشاهدة الدراما المؤلمة والحزينة (النكد بكل أنواعه ، وأضيف من عندى أفلام الرعب التى تنقل لنا خبرات مخيفة ومؤلمة ومع ذلك يتلذذ كثير منا بها) ، كل هذه الأمثلة دلت فرويد على أن الإنسان يقصد الألم مثلما يقصد اللذة ، ولا يقصد الألم لأن الواقع يجبره على ذلك ، بل لأنه بالفعل يرغب فى ذلك حتى لو لم يكن هناك أى ضغط خارجى ، فما سبب ذلك .

* مفهوم إجبار التكرار

يرى فرويد أن الإنسان يكرر العقد والعمليات النفسية والمواقف التى حدثت له فى طفولته .

فالإنسان الذى لم يعش كطفل علاقة تشبع ناجحة مع أمه يظل طوال حياته يعتقد أنه (لا يصلح لشيء) وحتى فى تعامله مع الناس لا يشعر بأنه يتلقى منهم احتراما ، وعندما ينجب أطفالا لا يرى أنه يتلقى منهم الحب الكافى . وأثناء علاج هؤلاء الأشخاص يلاحظ فرويد أنهم يميلون لأن يشعروا أنفسهم بالضعة والمذلة ، ويثيرون الطبيب لكى يقسو عليهم ، وتكون آمالهم فى الحياة فى أن يهبهم أحد الناس هدية ثمينة كما كانوا يتوقعون فى صغرهم .

يرى فرويد أننا نقابل هؤلاء الناس فى حياتنا مثلما نقابل شخص كريم يعتقد أن كل من أحسن إليهم جحدوه ، وصديق مخلص يعتقد أن كل أصدقاءه يخونوه ، وكذلك شخص عاشق يعتقد أن كل الفتيات تكرهه . هؤلاء الأشخاص يتصورون هذه الأحداث على أنها قدر ، أو أن حظهم ونصيبهم من الحياة هكذا ، فى حين أن الحقيقة أن سبب هذا هو رغبتهم فى تكرار تجربتهم الطفلية الأليمة طوال حياتهم .

إذن فمبدأ إجبار التكرار أساسى وإن كان ليس من السهل أن نستخلصه من حياة المريض بصورة نقية فهو غالبا ما يختلط بعمليات نفسية أخرى .

تحدثنا عن مبدأ اللذة وعن محوريته ، ولكننا وجدنا أن هناك من يتلذذ بنقيض اللذة ، أى باستعادة الألم ، أى أن هناك عملية لا شعورية أخرى تتحكم فى الأمر ، يسميها فرويد بمبدأ (إجبار التكرار) وهذا المفهوم يفسر عنوان الكتاب فإجبار التكرار هو (ما فوق مبدأ اللذة) .

من خلال مفهوم إجبار التكرار يؤكد فرويد أن الغريزة تجبر الحياة دوما على العودة لحياة سابقة. وهذا كلام غريب على مفهوم الغريزة ، فقد اعتدنا على أن الغرائز أشياء تسعى للتغير والنمو لا العودة والكمون (بمصطلحات سياسية هى ترغب فى أن تنضم للحزب الثورى لا المحافظ) .

يحاول فرويد أن يقدم أمثلة من الطبيعة لمفهوم التكرار ، فهو لا يكتفى بعالم الإنسان ، فيقول إن الأسماك والطيور تهاجر لمسافات طويلة لتضع بيضها ، وفى رأيه أنه لا يوجد مبرر لذلك سوى أنه تحذو حذو أسلافها . (نعرف أن الطيور تهاجر فى الشتاء لأماكن أكثر دفئا ، والأسماك تهاجر لتضع بيضها فى مياه مناسبة) .

وفرويد كعالم مادى من جهة ، وكفيلسوف من جهة أخرى ، وقد نحسبه على تيار الفلسفة الألمانية الساعية لتفسير العالم بطرائقها الجذابة غير المحققة ، يبدأ بتفسير تاريخ العالم كله وفقا لمبدأ إجبار التكرار ، فهو يرى أنه عندما ظهرت الحياة فى المادة الجامدة لأول مرة بطريقة لا نستطيع الجزم بها بإمكانياتنا الحالية ، ظهرت بالتالى وبشكل مواز أول غريزة ، وهى غريزة ترغب فى العودة مرة أخرى من الحياة للمادة الجامدة ، ولا شك فإن الحيوات الأولى كانت قصيرة ، فسرعان ما كانت ترتد الأشياء إلى المادة الجامدة .

وبالتدريج تعقدت الحياة ، وأصبح هناك أمد طويل بين الحياة والموت ، وطوال هذه الفترة تسعى الغريزة لتكرار النمط القديم ، وهدفها الأساسى من ذلك هو العودة للمادة الجامدة ، أى السعى للموت .

* ثنائية الحياة والموت

رغم أننا وصلنا مع فرويد أن فى الإنسان غريزة أساسية تسعى للموت ، إلا أننا لا نستطيع ان نؤكد ذلك من مشاهداتنا الحياتية ، فنحن نرى الإنسان يتمسك بالحياة ويعتز بذاته . والغريزة الجنسية – الغريزة الأهم وفقا للتصور الفرويدى – هى غريزة بناء وخلق .

يتوصل فرويد إلى أن هناك غريزيتين أساسيتين : غريزة الجنس / الحب / النماء / الخلق ، فى مقابل غريزة الموت / الهدم / العودة / التكرار .

وهذه الثنائية نلاحظها حين نتجه لأى موضوع بعلاقة مزدوجة فحبنا لشيء يتضمن داخله الكراهية ، والحنان يتضمن القسوة ، والعلاقة الجنسية نفسها تتضمن السادية (التلذذ بتعذيب الآخر) ، والعملية الجنسية مع وفرة نشاطها تتبع فورا بانطفاء لأجهزة الجسم وكأنها حياة يعقبها موت .

ومبدأ اللذة نفسه يخدم غريزة الموت بأن يسعى للحفاظ على ثبات الاستثارة بتجنب الألم ، والهدف الأصيل لذلك هو العودة إلى عالم الجماد .

وتضمن الموت داخل مبدأ اللذة استعان فيه فرويد بأفكار شوبنهاور (الفيلسوف الألمانى الذى اخترع فلسفة تتجه للسكون وتزدرى الحياة) والديانة البوذية وسعيها نحو النيرفانا (أيضا السعى نحو السكون والانسحاب من الحياة) .

فرويد فى النهاية ، وكما فعل فى عدة كتب أخرى ، يشكك فى فروضه ، ويقول إنه لا يثق فى النتائج التى توصل إليها ، كعادته يثير إعجابنا بطرائقه الفريدة الجذابة ثم يتركنا ولا يطلب منا الإيمان بأفكاره ، قد تكون هذه حيلة دفاعية منه ( اذا استخدمنا مصطلحات نفسية ) لاستباق النقد المتوقع على أفكاره ، ولكن هذا التشكك لن يدفعنا أبدا لتجاهل المفاهيم المهمة التى ناقشها فى هذا الكتاب .

أمير زكى
ملتقى دروب الفكرى
تم عرض الكتاب فى جلسة الإثنين 14/9/2009