الجمعة، ١٥ يوليو ٢٠١١

كائن يختزن الألم - مقال عن فريدا كالو


كائن يختزن الألم


 بقلم: غادة خليفة

***
ما الذي أعرفه عن جسدي ؟
كل ما تعلمته أنني يجب أن أتجاهله دائماَ، إذا التوت قدمي في الطريق علىّ أن أنتظر قليلاً قبل أن أكمل طريقي رغم الألم، إذا اشتعلت الموسيقى فجأة واستبدت بي رغبةٌ عنيفة بالرقص في الشارع علىَّ أن أبتسم وأمضي، هكذا تعودتُ أن أسكن هذا الجسد دون أن أعرفه بعمق.
أبحث عن اللوحات التي تشبهني أو تشبه ما أعرفه عن جسدي، ذلك الكائن الذي يختزن الألم في صبر.

فريدا كاهلو *1 الفنانة المكسيكية التي تُعرِّي نفسها أمامنا داخل لوحات تتماس مع مناطق الوجع التي نرفض الاعتراف بها ونتجاهلها متعمدين .
نحن أمام فنانة استخدمت مفردة الجسد كي تعبر عن الألم الشديد
فريدا كاهلو الفنانة المكسيكية التي ترسم وهي غيرمهتمة بالتقنيات الفنية قدر اهتمامها بتوصيل مشاعرها وذاتها كما تخبرها أو تعرفها بعمق.

( كانت تهرب من واقعها عبر الرسم، فبواسطة حمّالة لوحات استطاعت تثبيتها على حضنها، وريش وألوان، اتّخذت من نفسها نموذجا وعلى غرار رامبراندت وفان غوغ، كانت تروي حياتها عبر تصويرها ذاتها .
لم يعد الرسم بالنسبة إلى فريدا بمثابة سعي إلى تطوير أسلوبها أو مسألة انتساب إلى الفن الطليعي، ولم تعد تهتم بالسريالية أو بالفن التجريدي، كانت تحكي في لوحاتها بشكل أساسي سيرتها الذاتية، فتستخدم تركيبةً بسيطة يحتل فيها الوجه حتماً الوسط ، لمسةً منتظمة، وضوءاً متساوياً.
أرادت بذلك رسم لوحات بديهية وبسيطة تذكّر بالرسوم الدينية )*2



في اللوحة رقم (1) تطالعُنا امرأة متخشبة قليلاً، نصفها الأعلى عارٍ تماماً ومسنود بدُعاماتٍ  حديدية كما لو كان آيلاً للسقوط، يبدو جسدها فخارياً بشقوقٍ خفيفة
وتبدو تنورتها السفلى كأنها مصنوعة من الجبس، يظهر ذلك في طريقة تلوينها وفي التضاد الشديد بين الفاتح والداكن في شبه غياب للهاف تون (درجة اللون الوسطى بين الداكن والفاتح ).
المسامير الصغيرة تؤكد هذا التصلب عندما تتناثرعلى سنونها الحادة بخلاف المسامير في الواقع التي تسقط بكامل كتلتها، الوجه هنا هو حامل التعبير وناقل حالة الألم المكتومة التي اتضحت من خلال الشفاه المغلقة بحزم والالتقاء الحاد للحاجبين المرسومين بقوة.
الدموع تظهر داخل العينين وخارجها وكأنها مجرد آثار جانبية محتملة،
مع ذلك ندين بقوة التعبير للعينين المرسومتين بخطوطٍ بسيطة ومحددة، الشروخ تتناثر في الوجه، أما الشعرالذي يعبرُعن المشاعر فهو أكثر الكتل انسيابية في اللوحة.
تبدو الخلفية منتمية تماماً لطبيعة اللوحة ، ضربات الفرشاة الحادة تصنع السماء والسحب بينما الأرض تظهر في الجزء الأكبر من الخلفية مُخدَّدة وكأن زلزالاً ضربها للتو.
الجسد هنا لا يشير إلى الحياة ولا يحتفى بالبهجة، الجسد المتكسر المتكىء على أعمدة خرسانية يعبِّرُ عن وجع مكشوف تماماً مثلما يبدو جسد هذه المرأة مكشوفاً.
ليس المقصود هنا إبراز الجمال والتناغمات في جسد المرأة كما كان فنانو عصر النهضة مثلاً يرسمون العاريات، ولكنه يكشف عن التشوهات العميقة للروح ، لقد تحول الجسد من أداة للوصول إلى أداه تعذيبٍ حية .



في اللوحة رقم (2) تبدو امرأة تتقيأ جسدها إلى أعلى، وتتضح تفاصيل هذه الكتلة المعجونة من اللحم فنري الجمجمة والأمعاء وخنزير صغير وسمكة ودجاجة خارجين من فم امرأة مثلما تخرج بالونة الحوار من فم رسومات الكوميكس.
تنظر لنا بقوة بينما يبدو جسدها متقلصاً في نسبٍ غيرواقعية، خطوط الملاءة تفصحُ عن بروز للبطن، وتبدو كتلة الشعر كثيفة جداً ومتسعة مقارنةً بالكتف ضئيلة الحجم، في اللوحة ترقد امرأةٌ على سرير خشبي وفوقها دعامة ما تحمل ما تبصقه في وجه العالم.
في الخلفية نجد الشمس مرسومة بخطوط حادة وتأثيرات وألوان تشبه البرتقالة
وحولها هالة الضوء المتخيلة، والقمر باهتٌ في الخلفية، يكاد يتماهى معها.
السماءُ ملونة بأزرق الصباح الفاتح، والأرض ممتلئة بالأخاديد، نقوش الملاءة المرسومة بعناية شديدة تتعارض مع خطوط بقية اللوحة العنيفة المؤَكَّدة بالظلال الداكنة جداً، لقد تخلصت من العالم كما يبدو داخلها ، أو هي داخل عميلة ترجيع للحياة ذاتها، الحياة المرفوضة داخل زمن حاضر دائماً ( الشمس والقمر ) .



في اللوحة رقم (3) ترسم الفنانة فريدا كاهلو نفسها داخل جسد وعل برىٍّ أو غزال مُنهكٍ يوشك على الموت، داخل غابة تطلُّ على البحر والأفق، نجد امرأةً بوجهٍ حزين وجسدٍ اخترقته السهام.
جسد الغزالة واقعيٌّ ومرسومٌ بدقة، والخلفية مرسومة بمنظور واقعي ساعد على إبرازه صف الأشجار المتتابعة، يبدو التأنق واضحاً في رسم تفاصيل الأرضية وأوراق الشجر، حركة الغزالة كأنها على وشك الوقوع والتهاوي الأخير، والدماء النازفة تدل على حداثة الجرح، وهي لوحة أقرب ما تكون للاتجاه السريالي وعالم الأحلام واللاوعي.

لقد اخترتُ امرأةً ثصرخ بقوة ، وتمتلك جسداً حيَّاً ، اختارت أن ترسمه بدلاً من أن تتجاهله ، فاستمعت إليه وحولته إلى ألوانٍ وخطوطٍ ومساحات.
لقد أحببتها وهي تصرُّ على رسم ذاتها مرةٍ بعد مرَّة ، أتصورُ كلَّ الآخرين الذين تركوا لها ملاحظاتٍ عن التكرار ... هذا التكرار نفسه الذي جعلها تحفرُ عميقاً داخل نفس المكان، كي يصعدَ لنا كلُّ هذا الجمال.

غادة خليفة
هوامش
*1  فريدا كاهلو  Frida Kahlo رسامة شهيرة ولدت في المكسيك سنة 1907 وتوفيت
      سنة 1954 في نفس المدينة   

*2   فيرونيك برات


المقال عرض بملتقى دروب الفكرى، جلسة 20 يونيو 2011

الجمعة، ١٢ نوفمبر ٢٠١٠

ملتقى دروب الفكرى فى الأهرام المسائى


فى أرض الأوبرا "الفيلسوف قاعد يفكر سيبوه"

من يمر بالكافتيريا الملحقة بنقابة التشكيليين بأرض الأوبرا مساء يوم الإثنين من كل أسبوع يمكنه أن يلاحظ مجموعة من الشباب الملتفين حول إحدى موائدها المستديرة، وغالبا سيرى أحدهم مندمجا فى الحديث، إما عن كتاب أو فيلسوف، فى مقابل صمت وإنصات كامل من الآخرين، ولو اقترب قليلا ربما استمع إلى حديث من النادر أن يسمعه فى مكان آخر.
هذه المجموعة تشكل ما يطلق عليه منشئوها ملتقى دروب الفكرى، وهو ملتقى تأسس عام 2008 على يد مجموعة من طلبة قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة.
"بدأت الفكرة أثناء إقامة مؤتمر الفلسفة الإسلامية والأندلسية بمعهد ثربانتس." هكذا يتحدث محمد سيد صاحب فكرة الملتقى، مضيفا "كان هناك العديد من طلبة القسم مدعوين للمؤتمر، عرضت عليهم فكرة أن ننشئ بأنفسنا كيانا ما متعلق بالفلسفة، يكون موازيا لدراستنا بالقسم. فوجدت منهم الموافقة وبدأنا نجتمع خلال أسبوع من المؤتمر."
السبب الرئيسى لتكوين دروب – كما يشير محمد – ناتج عن المشكلات التى كانت تواجه أفراد المجموعة أثناء الدراسة فى الكلية. يقول محمد "لم نكن ندرس نصوص الفلاسفة أنفسهم، كنا ندرس عروضا للنصوص أو تاريخ الفلسفة، لذلك قررنا أن تتجنب مجموعتنا هذا وأن نتوجه للنصوص الفلسفية ذاتها."
واجهت المجموعة فى البداية مشكلة إيجاد مكان مناسب لاجتماعاتهم، هذه المشكلة التى تواجه أى تجمع ثقافى جديد، أدى ذلك لأن تقيم المجموعة اجتماعاتها الأولى فى بيوت منشئيها، حتى وافق د. حسن حنفى أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة أن يقيموا اجتماعاتهم فى الجمعية الفلسفية المصرية.
يقول محمد سيد " ظللنا على هذا الحال عام ونصف تقريبا، حتى ألغت الجمعية فترتها المسائية فاضطررنا للانتقال إلى هنا، إلى كافتيريا نقابة التشكيليين."
 يؤكد محمد سيد على أن اختيار اسم (ملتقى دروب الفكرى) قد تم بعناية، فهو ملتقى لأنه ليس جماعة متفقة الأهداف، وهم دروب لأن أفكارهم وتوجهاتهم متنوعة، وهو ملتقى فكرى، حتى لا تكون موضوعاته فلسفية فحسب.
لم يبق طابع الجلسات فى دروب كما هو من بدايتها، فحيث كانوا فى البدء يقرأون النصوص الفلسفية أثناء الجلسة ويعلقون عليها، انتقلوا لأن يختاروا موضوعا فلسفيا ليتبادلوا النقاش فيه طوال أربعة أشهر. على أن ينتقلوا إلى موضوع آخر بعد هذه الفترة.
فى المقابل يرى سيد أن أبرز مكاسب الملتقى هو استمرار طلبة الفلسفة السابقين من أعضاء الملتقى فى الاهتمام بالفلسفة، فغالبا ما يعمل طلبة الفلسفة فى مهن أخرى تقطع صلاتهم بالفلسفة.
ولكن مع ذلك فليس كل الحاضرين طلبة فى قسم الفلسفة أو خريجين منه، تتحدث فريدة أحمد المعيدة بكلية الفنون التطبيقية جامعة المنصورة عن علاقتها بالملتقى الذى تعرفت عليه من خلال أصدقائها، تقول: "أعضاء الملتقى يحاولون مناقشة ما تعلموه بدون الاعتماد على التلقين والحفظ المعتادين، هذا كان مثيرا بالنسبة لى وجديرا بالاهتمام."
وتتحدث أيضا عن إعجابها بتنوع اتجاهات الأعضاء لما يضفيه من تعدد وجهات النظر على الجلسات.
أما الشاعر أحمد الحضرى فيرى أن هناك سلبيات، ولكنها لا تختلف – فى رأيه – عن سلبيات المجتمع المصرى ككل، يقول: "أحيانا تفتقد بعض الجلسات التنظيم، وعليهم أن يسعوا دائما للارتفاع بمستوى الجلسة." ولكنه فى نفس الوقت يرى أن المستوى الحالى جيد، غير أن استمرارية الملتقى طوال هذه الفترة (عامان ونصف) يعتبر إنجازا فى حد ذاته.

نشر فى الأهرام المسائى 8/11/2010

الأحد، ٢٤ يناير ٢٠١٠

السبت، ٩ يناير ٢٠١٠

مصباح علاء الدين

بقلم: مازن مصطفى

المفهوم يمنحنا لذة جمالية، يتضح هذا بنيتشة، وهل هناك ما هو أدبي بقدر العود الأبدي؟. إلا أن الجمالي، كما نعلم، يقدم لنا دلالات معرفية، سنمثل لذلك بعلاء الجزولي، بل بصيرورة بورتريهات علاء الجزولي.سنقدم مفاهيم هنا،لن نتحدث عن تراكيب، عن علاقات لونية، بل عن مفاهيم، فنحن أم
ام الندرة: أمام المفاهيم التي لاتمنح نفسها في العلامات، بل في مخطط البناء نفسه. إن الأدب يقول، جميعنا يعلم، لكن ما الفرق بين الأدب الذي يقول وبين أدبي بورخيس وكافكا؟ إن الفرق، ما ينتج القيمة الأعظم، هو أن البناء نفسه شيد للقول؛ إن العبث، اللجدوى هنا مخطط عمل، كلما تحرك "ك" خطوة تقهقهر خطوتين، وكلما تحرك خطوة من الخطوتين تقهقهر خطوتين مرة ثانية، إلى أن يموت بمخطط كافكا. ما الذي يقال داخل هذا التخطيط؟ لا يهم، الأهم ما يقوله المخطط نفسه. إنتقالك من لوحة واقعية إلى لوحة مجردة لا يحمل مجرد مضمون لوحتين،لا، إنهما يقدمان طريقي قراءة، يقدمان مفهومين للعمل الفني: مالذي تخبرك به اللوحة المجردة؟ إن كل ما تبحث عنه من في اللوحة الواقعية ليس مهما حقاً، خذ، إن الجمال في هذه العلاقات، لا من تعرفك الساذج على مضمون معطى.سأقدم مفاهيم يمنحها لنا تركيب علاء الدين نفسه، بل قدمت سلفاً، يمكنني ذكر ماكتبت في الفقرة السابقة كأول ما هناك.
إن البداهة في كون العمل التشكيلي عمل على الشكل بالشكل، تجرف، في خطورتها، إنتباهنا إلى تراص تراكيب (منظورة بالأساس، في مقابل منظورة للتحويل، مثلما الحال في الرموز التشكيلية الدالة المسماة بالحروف) للعلامات على المادة وبواسطتها. هذا التراص، نفترض أنه "فنان" بقدر ما ينسب إختلافاً للمكرور من ترتيب علامات سابق، في الطبيعة؟ يا للهول، إن الطبيعة وهم مثلما "الثقافة"
وهم، مستعيراً مقولة نيتشة، الفارض نفسه على هذا العمل كما يبدو، في وصف شيء آخر هو التناقض، مجرد "دجل من صنع أصحاب العقول المنظمة"، أما الحاصل، كما في دجلنا نحن، فخلائط علاقات بصرية بين ما هو ثقافي وهو كل شيء، وما هو طبيعي وهو كل شيء أيضاً، وهما ما يمكن أن نسميهما الكل المنظور في حالتنا. إلا أنه ليس الكل المنظور بقدر ما هو محايثة الفنان من الكل المنظور.
إن الإختلاف يتحقق بفضل المحايثة، بفضل جزئيتها، بإقتطاعها المحتم، طالما كففنا عن تحققنا في كمال إلهي، لأننا، نحن والكل المنظور، لا نتحد ولاننفصل، بل نشرع فيما يقرب المعاضضة، الإقتطاع المتبادل للعلامات ونحن. هذا الإقتطاع إرادي لدرجة، وهي الدرجة التي يعمل عليها الفنان، محاولاً؛ بإستغلال كل شىء حتى لا إرادته، توسيعها.
أما الآخر؛ اللامتميز حقاً عن الفنان نفسه، فهو يشارك الفنان في رصد مرصودي العمل الفني؛ المفكر فيه واللامفكر فيه، بفعالية موازية، تحتضن إقتطاعاً مختلفاً، فهي مسافدة بين مسطحي محايثة نطلق عليها إسم النقد. إن الآخر، كما أسلفت، لا يتميز حقاً عن ذات الفنان، بذريعة موازاة القراءة، كإنتاج جديد للنص، وبذريعة أن الفنان ما أن ينفصل عن لحظة الإنتاج، أي ما أن يمتلك قدرة تلقي عمله، يحقق إنفصاله عنه، إنفعاله بالإنفصال، بما يتقوم لوحده، حتى يتمكن من مقاربة لامفكره نفسه؛ اللامفكر الذي يستغل، وقد صار مفكراً، في عمل لاحق، في تعرف خبرة أمضى بالظلمة.
قلنا الكل المنظور، ونعني الجانب القصدي من المنظور؛ ذلك الجانب الذي يدفعنا لزياة معرض تشكيلي؛ كمحاولة يائسة لكشط أكوام التشكيل المترامية بالإكراه، تشكيل الشارع، الألوان المردفة للسيارات المتلاصقة بفعل تشكيلي مروري ذو ثلاثة أضواء تتعاقب. إن الجانب القصدي، وأعني العمل، أكرر: العمل، ما يمنح فرادة مسطح محايثة ما من كاوس الشكل. عمل اليد والعين والدماغ؛ بل عمل الجسد! الوعي؟ أما تزال هذه الكلمة مستخدمة؟ أنعني ثلة بائسة من إدراكات قصدية يغلب عليها ما هو غير قصدي من كل إتجاه؟ هذا معبر ضيق، إقتص منه فرويد وتناهشته البنيوة ثم أورثناه. إلا أن الفاعل موجود، إلا أن الفاعل لم يمت؛ إن قراءة مسطح المحايثة المقتطع، عفواً أو قصداً، ليس فرقاً أكرر، يشهد للفاعل بثغرة النفاذ الوحيدة. إنها الأمل المضبب الذي علينا رعايته في العالم، شرارته، منفذه، نفاجه المضطرم بالشهوة والعارم لها في عالم أطبقت عليه رتابة كلاب الليدو وخصي المثال الذهدي وحدود تحركات الشطرنج. الشخصية، الإختلاف، الفرادة، مصباح أخير في عالم ممتلك للسيستم.
عن المأزق الجمالي، يخبرنا علاء، عن ما سعى لإقتطاعه من الكاوس؛ عما يصنع الفرادة، نتشهى. إن القراءة طموح لا إلى الشرح، أو الإنابة، فدرس عمك جان كوكتو معلق على الرقبة ما يزال، ما الذي نبحثه في لوحة؟ يجيبنا عمك: اللوحة ذاتها؛ إنها بالأحرى طموح إلى القراءة نفسها، إلى إضاءة النفاج الذي تمنحه الشخصية لنا، وأي طموح غير ممكن.
ان مقارنة بسيطة بين عمل يعود لعقدين او ثلاثة الي الوراء , مثل بورتريه (حسن عطية ) وبين البورتريه الراهن المستلهم لتقليد القناع الافريقي المستلهم لتقليد بورتريهات الفيوم توضح لنا اي بارقة حياتية حدثت في الربع قرن الماضي . اول ما يرد ان انتقالا حاسما حدث من الشكل المكرس عبر المركزية الاوربية والمكرس اكاديميا بالطبع لتقاليد افريقية خالصة ومهمشة.
هذا اول سوء تفاهم؛ قد يوصلنا لإقحام نقاط غير مركزية في طبيعة كل علاء المنظور. سوء تفاهم المرجع السياسي؛ أي أن نستدل بأن إنتقالاً تم من مرجعية لأخرى عبر مفهوم نقدسياسي للهامش والمركز. هنا نتورط في إعلان مقاصد سياسية لايصبح الكل المنظور وفياً لها إلا إذا إفترضنا، بالمقابل، أن كل من يرسم البورتريه "الأوربي" يعمل على التكريس لهيمنة المركز الأوربي مضطهداً الشعوب غير الأوربية. حسناً، في كل الأحوال هو إتجاه قراءة سهل الدحض؛ إلا أنها ورطة النظرة العاجلة الأولى: أن يتحول الفنان إلى متعصب قومي بمقابل الإنفتاح الكوزموبوليتاني، وهو مرض شاع، إن نظرنا لآونة الرواج، في إتجاهات الزنوجة، رد الفعل العنصري على الفعل العنصري، وسواها.

أفي الأمر، والحال تلك، تطعيم للوافد بالموروث؟ إستبدال للموروث بالوافد؟ العكس؟ مثلما يفعل مزينو اللوحات بالرموز النوبية أو الشعر الفصيح أو سواهما كوسيلة لعكس "المكون المحلي"؟ إن الأمر، كما نأمل توضيحه بإستطرادنا، يتجاوز ثنائيات القومى الكوزموبوليتاني، الوافد الموروث، إلخ. مثلما ، بداهة، لا يود العمل عكس "التنوع الثقافي" كما في هوايات الغرض السياسي الأثيرة عند قراءة النصوص. بقراءات من هذه الشاكلة نكون قد حققنا أول فشلنا؛ رسمنا حقلاً خاطئاً للمسطح و أدغمنا عناصر إتفاقية خارج المكون، ضد الفرادة بالطبع، وماحقة للإختلاف الذي نود.
نقول أن نفياً واجباً للعامل السياسي ضرورة عند التحدث عن مفمهمة عمل الفنان، في حال كونه عملاً فنياً لا محاولة لتفنين البيان السياسي؛ وهو نفي، بداهة، يجب أن يمتد وإن أكد صاحب العمل نفسه شبهة من إلتزام، مثلما في حالة بريخت وكثيرون لا جدوى من إستخدامهم لأغراضنا هنا. هنا، حيث يعلمنا نيتشة، صديق هذا المقال الشخصي، درساً مهماً، وهو يتحدث عن نموذج من خدم الفلسفات يتمثل في فاجنر.إذ بماذا يبرر نيتشة تحول فاجنر من فلسفة فيورباخ إلى شوبنهاور؟ إن فاجنر تحول إليها لأنها "تفتح إمكانات جديدة لموسيقاه".اللعنة، ألهذا يتحول الفنان من فكر لآخر؟ من فلسفة لأخرى؟ هذا درس كامل النيتشوية: حين يتعلق الأمر بالفنان، فالمقياس ليس ما يراه حقيقياً في هذه الفلسفة أو تلك، ليس فيما يراه متماسكاً، أو عظيم الحجة، بل "ما يفتح إمكانات جديدة لموسيقاه". إن الفنان يبصر الحقيقي الفلسفة، النافذ في الفلسفة، المتماسك، عظيم الحجة، فقط لأن هذه الأشياء تدر عليه أرباح جمالية: الأمر بمجمله، بالنيتشوي الفصيح، يتعلق بذرائع تعبر بها إرادة قوة الفنان بما هو فنان. إنه، كما في بصيرة تمسو النافذة: مرضعة لغير التغذية.
أليس علينا، إبتداء من هنا، أن نعمل على رصد الفرادة أي خارطة المسطح، إبتداء من ما يتحقق، كنتيجة للخارطة، من أرباح جمالية؟. كنا قد شجبنا القصدي لصالح المصنوع من قبل التشكيلي الجبري، إشارات المرور التي ترسم لنا الألوان العشواء لحديد السيارات الممتثلة، المهندس المدني الأخرق الذي يجيد نفس الواجهات الصناديقية للبيوت؛ قلنا بأن القصدي جهد يائس، حسناً لن يغدو يائساً تماماً بمعطى الذرائعية الجديدة، فهو يمنح في آخر الأمر القدرة على تحقيق أرباح جمالية خارقة؛ إن إرادة الفنان بما هو فنان، بإمتطاء الذرائع، تضفي بطابعها على التراكم اللامحسوس كله، من تشكيل أبصره في اللحظة التي أصحو بها: السقف الأبيض للمنزل، الذي نحتت بمنتصف بياضه مروحة حديدية لها قدرة الدوران، إلى إغماضهما على نفس اللوحة بذات المروحة.
لنلاحظ، نحن إبتعدنا عن التقني، وإن إتخذناه عتبة هي كل شيء (ما هو العمل سوى تكنيك، بل ما كل فعل؟) ولكنها ليست سؤالنا، في ذاتها كما أسلفنا، ونكرر أن إحساس المتاهة في أدبي بورخيس وكافكا لا يأتينا لأنهما وصفا متاهات، إطلاقاً، بل يقين المتاهة يأتينا لأنهما كتبا قصصاً في شكل متاهات، وهو تكنينك التكنيك.
من هنا نكرر قراءة علاء، الآن. إن إقتطاعه الجمالي هو في آن واحد إقتطاع مفاهيمي،وهنا يشكك في كوكتو، من هنا يرد عليه:نحن لا نكتب اللوحة، نحن نكتب شيئاً آخر تقدمه اللوحة، نكتبنا نحن، نحن واللوحة، مستويات حركة اللون داخلنا ما نكتب، وهي لحسن حظ الجميع، ليست اللوحة.

إن بورتريهات الفيوم مفهوم. إنها إشارة جمالية إلى ما يخلصنا من مأزق الحداثة، من خطها الصلد، حدودها التي إمتثلنا لسطوتها خانعين، راضين ببلادة توارث مفهوم للعمل أحادي وحاصر لعلاقات التركيب والمساحات والألوان والخطوط: إنها اللوح ذات الحامل، إبنة اللعين المكرس: المتحف، ومحظية أوربا منذ نهضتها المزعومة. كسر للحواجز التي بنيت فيما بعد: هذه هي بورتريهات الفيوم، التي إستلهمت، إذن.إلغاء التصنيف: نستبدل التابوت المنحوت ببورتريه عوض القناع: نستبدل وجه مابعد الموت بوجه حاضر منذ ما قبل الموت؛ الوجه الذي تعلقه في الردهة ثم يدمج كنحت بورترتيه على تابوتك الشخصي: أي حرية. واقعية تختلط بإنطباعية، بل لكسر الحواجز أكثر، دعنا لانتقيد باللون، دعنا ندمج النحاس والحلي وكل ما هناك في العمل، أليس كل ما هناك منظور؟ كل ما يخدم غرضاً، لا الفلسفة وحدها، لإنتاج وجه الخلود عوضاً عن وجه الفاني.
إن الصدفة قادرة وعظيمة، إلا أنها أعجز من أن تربط ما ردمه المقال من مفاهيم بالخيار الجمالي العلائي؛ إن ما يفعل هو كائن غرائبي يدعى الفن. ثم إن فعلت، ألا يأتي الخيار الجمالي المصاحب، خيار الأقنعة الأفريقية، ليؤكد القصدية العنيدة المبنية على ما هو أكثر من مجرد المفاهيم؟ وكذلك من مجرد الذائقة؟ أكثر من قوة الموهبة العمياء يا عملات لوكاتش؟ إن القناع بدوره يؤكد خصوصية وقصدية الإقتطاع، المكان الذي يضعه الإختلاف لنفسه، والحرية المنتزعة. البورتريه؟ تلك اللوحة التي توضح بعدين فقط من الأبعاد، تلك التي لا يحتوي ظهرها ولا جانبها على عمل؟ تلك التي نرسمها بالألوان فقط؟. تلك التي إزدهرت مع بزوغ مفهوم الفرد في الحداثة؟ يقول الحس العام.
البورتريه؟ إنه مدمج بالنحت في بورتريهات الفيوم، تلك التي تعود إلى ما قبل إنجاب الحداثة، مجسم ومرسوم على كل جوانبه في القناع، بكل المواد، المسامير، الأمشاط أدوات الحلاقة ماوس الكومبيوتر الموضوع عوضاً عن الأنف، هل إزدهر البورتري مع مفهوم الفرد حقاً؟ يسألنا علاء.
هامش: إن ربط بزوغ تصوير الملامح الشخصية مع الحداثة، مفهوم الفرد، ديكارت والذي منو، يصبح مضحكاً أمام تابوت واحد عليه بورتري في المتحف المصري.إن رتابة الخط الذي إستمر به رسم البورتري منذ تكريسه الأوربي وإلى الآن مثيرة للشفقة، مقابل ما رسم في عصور سبقته من بورتريهات صاعقة.. لا، ليس الرسم فقط هو ما لايتحرك للأمام فقط دائما، بل إن فكرة التاريخ نفسهاتحتاج، طبعاً، للهدم وإعادة الترتيب بحيث يبدو متواضعاً كما يليق به. أقول ليكم: دعونا نأخذ بالعود الأبدي في مواجهة هذه التاريخانية المضجرة.
الضجر! أي خيار جمالي لايجدأساساً في الضجر، نسباً فيه، يجب على أن أضعه تحت الظن الظنون. إن كسر الإطار، محاولات مزج البورترية مع النحت، إعمال البارز في اللوحة التي أورثناها مسطحة بالحداثة، النحت في كل الجوانب، إعمال عناصر عادية تكتسب لدي تشغيلها الغرابة، وغيرها من أفاعيل علاء الدين، لايجب قصرها على ما إستطعناه، لا، إن الضجر وطأة التكرار وما يعد جديرة بإيماءة على الأقل، ومن يعرف
حقاً ما يستطيعه جسد؟
إننا لابد أن نكف الآن ناظرين للوحة نفسها، ماسحين وزر ما يجب مكتفين للوهلة بما ينجز. الجمالي الذي يبني في المعرفي والمعرفي الذي يبني في الجمالي وعلائق لانهائية. إن اللذة، حين العمل نفسه، حين فتح إمكان، هذا ما يلملمني، لفتحه طريقاً جديدا لموسيقاه. إنها اللوحة ذاتها.

مازن مصطفى
ملتقى دروب الفكرى

المقال ملكية خاصة بصاحبه.

الجمعة، ٩ أكتوبر ٢٠٠٩

جاك ديريدا : الخوف من الكتابة

مقابلة مع ديريدا علي هامش الفيلم الوثائقي Derrida 2002
في كل مرة أكتب فيها شيئاً وأشعر بأنني اتقدم نحو منطقة جديدة، الي مكان جديد لم اذهب اليه من قبل، هذا النوع من التقدم يتطلب غالباً إيماءة معينة قد تؤخذ علي أنها عدائية فيما يتعلق بمفكرين آخرين او زملاء. انا لست شخصاً مجادلاً بالطبيعة ولكنه حقيقي ان الإيماءات التفكيكية تظهر لزعزعة الاستقرار أو إحداث توتر أو حتي تجريح آخرين(1).

لذا ففي كل مرة أقوم بمثل هذه الإيماءة توجد لحظات من الخوف، هذا لا يحدث وأنا أكتب ففي الحقيقة وأنا اكتب يكون لدي احساس بضرورة شئ هو أقوي من نفسي والذي يتطلب مني أن أكتب كما أكتب.

لم يحدث أن تخليت عن شيئاً كتبته لأني كنت خائفاً من عواقب معينة، لاشئ يخيفني وانا اكتب فأنا اقول ما أعتقد أنه يجب قوله.

هذا يعني انه عندما لا اكتب توجد لحظات غريبة عندما أذهب للنوم عندما آخذ قيلولة وأنام، في هذه اللحظة وانا بين النوم والصحيان فجاة اخاف مما افعله وافول لنفسي :
"أنت مجنون لتكتب هذا أنت مجنون لكي تهاجم شئ كهذا أنت مجنون كي تتحدي سلطة كهذه لتكن نصية او مؤسسية او شخصية”.

يوجد نوع من الذعر داخل لاوعيي وكأن... ماذا يمكنني أن أقارن هذه الحالة به ؟

تخيلي طفلاً يفعل شيئاً مريعاً، فرويد يتحدث عن أحلام الطفولة عندما يحلم الشخص بأنه عاري وخائف لأن الجميع يرونه عارياً. علي أية حال في تلك الحالة وانا شبه نائم يكون لدي الشعور بأني قد ارتكبت شيئاً إجرامياً، مخزيا ولا يمكن الاعتراف به وقد كان علي ألا أفعله.
شخص ما يقول لي "لكنك مجنون لتفعل شيئاً كهذا" وهذا شيئ أنا اصدقه حقاً وأنا شبه نائم والأمر المتضمن في هذا هو أن " أوقف كل شيئ، تراجع عن هذا، أحرق اوراقك ما تفعله هو غير مقبول "
ولكن بمجرد أن أستيقظ ينتهي هذا.

ما يعنيه هذا بالنسبة إلي أو كيف أفسره هو أنه عندما اكون مستيقظاً، واعياً، أعمل، بطريقة ما أكون لاواعياً بشكل أكبر منه وانا شبه نائم.
عندما أكون في حالة شبه النوم تلك يوجد نوع من اليقظة تقول لي الحقيقة أولاً وقبل كل شيئ أن ما أفعله هو جدي للغاية ولكن عندما أكون مستيقظاً وأعمل تلك اليقظة تكون في الواقع نائمة، إنها ليست الأقوي من الإثنين.
وهكذا أقوم بما يجب فعله .

ترجمة : محمد سعد

برجاء عدم استخدام الترجمة بأي شكل من الأشكال الا بعد استئذان المترجم
----------------------
(1) جدير بالذكر هنا أن ديريدا كان دائماً ما يقدم قراءات لأعمال فلاسفة سابقين عليه ولفلاسفة معاصرين مثل فوكو وشتراوس ولاكان وبارت وقد كانت تلك القراءات أحياناً سبباً في عداءات نظراً لهجومه الشديد الذي يعتمد استراتيجية تقوم علي الفضح والتعرية، وربما يمكن الاشارة هنا الي القطيعة التي دامت عشر سنوات بينه وبين فوكو والتي سببها نقده لكتاب الأخير "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"

جاك ديريدا : يوريكا

*يوريكا eureka كلمة يونانية تعني التعبير عن السعادة أو لحظة الانتصار أو اكتشاف شيئ ما، وهي مقابلة مع ديريدا علي هامش الفيلم الوثائقي Derrida 2002

عندما كتبت "في علم الكتابة" كان هناك شيئ آخر قد حدث، علي الرغم من أنه في نظري أن العديد من النصوص الأخري التي كتبتها بعد "في علم الكتابة" يمكن ان تعتبر [أفضل] أو يمكن ان تري علي أنها أثري أو من المحتمل أنها أكثر إثارة، بكلمات اخري كانت لها مميزات اخري، فعلي الرغم من كل هذا فالإحساس الذي كان لدي عندما كتبت "في علم الكتابة" ليس الكتاب ولكن فقط المقالتين الأولي والثانية في صيف 1965، في الواقع كان لدي إحساساً بأن شيئاً مميزاً للغاية قد حدث لي.

كان لدي احساس بأن جرأة تفسيرية Interpretative Edge، رافعة(1) A lever قد ظهرت لي، ليس الأمر أنني كتبته بنفسي، فلم يحدث لي هذا الأحساس مرة أخري حتي عندما اكون سعيداً بنص اكتبه، لم يكن لدي أبداً الشعور بأنه أنا، لذلك فلدي الشعور المزدوج بالمسئولية وعدم المسئولية عندما أكتب نصاً، عندما اكتب أشعر بغرابة بأني مسئول وغير مسئول كما لو أني دونت/سجلت شيئاً قد فرض نفسه علي، في "في علم الكتابة" كان لدي هذا الإحساس حتي بشكل أقوي، أحسست كأن شيئاً ما قد حدث لي.

لا أريد أن أعطي لهذا حساسية دينية فهو لم يكن تجلياً أو نشوة ecstasy ولكن هذا الشيئ تملكني وحدث، ليس بواسطتي وإنما حدث لي، شيئ سمح لي بأن أضع تحت تصرفي جرأة تفسيرية، رافعة كانت في غاية القوة كانت هي آلية/جهاز التفسير لقراءة "التراث" عندما أقول "تراث" فهذا هو التراث الفلسفي الغربي.

لدي الانطباع بأني أستخدم الكلمة "رافعة lever" ولكن أيضاً يمكنني أن أسميها نوع من الماكينة Machine أو جهاز apparatus للتفكير وتكنيك يمكنني من الصياغة وإقتصادياً لفك شفرات... ليس كل نص وإنما المهيمن منها في ثقافتنا.

ولكي أضع هذا بشكل أكثر وضوحاً، أتذكر جيداً ذلك الصيف حينما كتبت هاتين المقالتين وأرسلتهم للنقد، أعني المقالات الطويلة 60 صفحة وذهبنا كعائلة الي فينيسيا، انا اتذكر جيداً أني قلت لمارجريت(2) حينما كنا في البافوريتو "أتعلمين يا مارجريت... أنا أعتقد بأن شيئاً ما قد حدث للتو" وأنا اتذكر جيداً ذلك الإحساس الغريب بالجلاء/الوضوح الذي كان لدي والذي لم أشعر به من قبل، وبمعني ما لن يحدث لي مجدداً حتي بعد ذلك عندما حدث لي مثل هذه التجارب القوية مع أشياء كنت أريد أن أفعلها أو أكتبها بشكل ما كانت حتي أقوي مع نصوص مثل أجراس Glas وبطاقات معايدةPostcards والإعترافات Circumfessions فقد كانوا نوع من الإنقلابات/ الإضطرابات بالنسبة لي، زلازل صغيرة عندما كتبتهم ولكن علي الرغم من ذلك لم يحدث أبداً مجدداً أني أحسست نفس الإحساس الذي كان لدي عندما كتبت "في علم الكتابة" أن يكون شيئ ما وضع تحت تصرفي للكتابة والقراءة والتفسير...إلخ

مجدداً سوف يكون من الخطاً أن ننسب وصفاً دينياً لهذا فهذا لم يكن أبداً تجربة دينية او تحول أو حتي نشوة لم يكن هذا علي الإطلاق ولكني أحسست بلحظة إستثنائية حقيقة في عملي كما لو ان كل شيئ سوف يأتي بعدها أتي ببساطة بعدها بغض النظر عن أي شيئ آخر كان يمكن أن يحدث.

ترجمة : محمد سعد

برجاء عدم استخدام الترجمة بأي شكل من الأشكال الا بعد استئذان المترجم
---------------
(1) Interpretative edge لست متأكداً تماما من صحة الترجمة ولكن بحسب تعريف الانكارتا قد تعني edge سلوكاً أو صفة تنطوي علي مخاطرة او استفزاز ، lever قد تعني جهاز أو آله تعمل بإستخدام حركة ميكانيكية وهذا يتماشي مع وصف ديريدا لها .
(2) مارجريت ديريدا زوجته ومحلله نفسية فرنسية، والبافوريتو هو الأتوبيس النهري بإيطاليا.

الجمعة، ٢ أكتوبر ٢٠٠٩

دى سوسير .. تحديدات أولية


بقلم : محمد سعد


فرديناند دي سوسير [ 1857 – 1913 ] عالم لغويات سويسري تعد أعماله من أهم الأعمال في مجال اللسانيات ومؤسس علم السيميولوجيا ( علم العلامات ) وهو اول من حدد موضوع علم اللغة وهو يعتبر أبو البنيوية رغم أنه لم يستخدم كلمة بنية وإنما استخدم كلمة نسق أو نظام ويعتمد البنيويون عامة وشتراوس وفوكو وبارت ولاكان وديريدا خاصة علي أفكار سوسير حول الرمز في أعمالهم فهم وإن كانوا يفتقرون لبرنامج عمل موحد فهم لا يفتقرون الأصل المشترك وأهم اعمال سوسير هو كتاب "محاضرات في علم اللغة العام" وقد نشر بعد وفاته سنة 1916 بواسطة تلاميذه.

أهم ما أدخله سوسير من إضافات في علم اللغة يتحدد في ثلاثة تمييزات كما حددها جون ستروك:
اعتبر سوسير اللغة نظام من الرموز تحدد مدلولات الرموز فيه من خلال العلاقات والإختلافات بين الرموز .

1- حلل سوسير الرمز الي مكونيه الدال Signifier والمدلول Signified والدال هو الجانب الصوتي من المادي من الرمز حيث يمثل الصوت في حالة اللغة المحكية أو الحرف المكتوب في حالة اللغة المكتوبة أما المدلول فهو الجانب الذهني فهو لا يشير إلي الشيئ بل يشير الي الصورة الذهنية أو الفكرة عن الشيئ، ويؤكد سوسير علي الوحدة بين مكوني الرمز حيث يشبههما بالورقة ذات الوجهين لا يمكنك تمزيق أحدهما بدون ان تمزق الوجه الآخر.

و يمكن تطبيق التمييز بين الدال والمدلول علي رموز خارج اللغة فأي شيئ يمكن أن يكون رمزاً مثل الصور والحركات البدنية ولكن بشرط أن يحمل الرمز رسالة ما تحددها طبيعة الثقافة التي نشأ بداخلها هذا الرمز فإيماءة الوجه مثلا يعتمد معناها علي اتفاق داخل ثقافة ما علي معانها بين المرسل والملتلقي عند استخدام تلك الإيماءة تستدعي ذلك الإتفاق .

2- ميز سوسير بين اللغة language والكلام Parole حيث اللغة هي النظام النظري الذي يضم قواعد اللغة بينما الكلام هو بمثابة التحقق العيني لتلك القواعد، وقد كان لذلك التمييز اثر كبير في الأعمال البنيوية حيث نجد لديهم تلك التفرقة بين البنية والحدث أي بين الأحداث والقواعد التي تتحكم في هذه الأحداث وأيهما أسبق وجوداً البنية أم الحدث.

3- التمييز الأخير الذي قام به سوسير يعتبر تحولاً في دراسة اللغة وقد يعد قطيعة مع التقليد اللغوي الذي كان سائداً حيث ميز بين محورين لدراسة اللغة المحور التزامني Synchronic والتتابعي Diachronic اما عن المحور التزامني لدراسة اللغة فهو يدرس اللغة علي اعتبار انها نظام يؤدي وظيفته في لحظة ما دون وجود اعتبارات للزمن أما المحور التتابعي فهو يدرس اللغة بإعتبارها نظاماً يتطور عبر الزمن ويرصد التغيرات التي تطرأ علي اللغة تاريخياً ويرفض سوسير المنظور التتابعي قائلا إن معرفة تاريخ الكلمة لن يفيد في تحديد معناها الحالي ويشبه الأمر أن يشاهد الشخص مشهداً ثابت بينما هو يتحرك قائلاً بانه من الأفضل له أن يثبت في مكانه حتي يتمكن من مشاهدة المشهد بشكل واضح فحركته لن تفيد في فهم طبيعة المشهد نفسه.

أدخل سوسير أيضاً فكرة في غاية الأهمية الي مجال البحث اللغوي وهي إعتباطية الرمز علي مستويين ، الأول هو إعتباطية الرمز علي مستوي الدال حيث انه لا يوجد علاقة طبيعية بين الدال وليكن كلمة وردة مثلاً وبين الوردة الحقيقة جعلتنا نطلق الدال ( و – ر – د – ة) بذلك التسلسل الصوتي المعين وانما توجد علاقة عرفية يتفق عليها الناس، والرمز اعتباطي علي مستوي المدلول ايضاً حيث ان لكل لغة مفاهيمها الخاصة بها والتي تختلف من لغة لأخري والمثال النمطي الذي يعطيه علماء اللغة هنا هو الألوان فعلي الرغم من أن الألوان واحده في كل زمان ومكان الا ان اللون البرتقالي في العربية يطلق عليه في الانجليزية Orange.

ما نخلص اليه من اعتباطية اللغة ان اللغة ليست شيئاً جوهرياً ثابتا وانما هي نظام من العلاقات بين رموز اللغة ويتحدد معني كل رمز من تلك الرموز من خلال علاقته الرمز بالآخر علي المستوي الصوتي والدلالي أيضاً فكلمة سرير مثلا لا يتحدد صوتها الا من خلال الكلمات التي تحدها مثل صرير فالاختلاف بينهما صوتياً يعطي الفارق بينهما وعلي المستوي الدلالي ايضاً فيجب تحديد كلمة سرير والتفرقة بينها وبين المنضدة، وعليه فالاختلاف هو ما يصنع المعني.

لم نلق الضوء هنا علي سوسير الا لنعكسه علي البنيويين وتأثير أفكاره فيهم وهذه بعض النقاط الهامة :

- اعتباطية الرمز ادت الي دخول أفكار الإختلاف والتعدد من اوسع الابواب باب اللغة التي ازاحت الانسان من علي خشبة المسرح الفلسفي فلم يعد هو وحده من يستأثر بالانتباه، فلم تعد اللغة مجرد وسيط للفكر بل اصبحت هي نفسها مساويه للفكر.

- اللغة تحتل موقعاً مركزياً هاما في فكر البنيويين وذلك لأن كلا من ديريدا وشتراوس وفوكو يتعاملون مع التراث الفلسفي أو الانساني وهو في النهاية ليس الا نصوص مكتوبة أو اساطير محكية في حالة شتراوس، لقد حلل شتراوس الأساطير علي انها نظم من الرموز والعلاقات ويتحدد معني الرمز فيها من خلال الموقع الذي يحتله داخل الأسطورة وكان حذراً من الوقوع في الخلط بين ماهو طبيعي وماهو ثقافي فهذا معناه الفشل في ادراك ماهو انساني علي سبيل المثال فقاعدة زنا المحارم عند شتراوس اول قاعدة أخرجت البشرية كلها من حالة الطبيعة الي حالة الثقافة وبمعني ما لم يعد هناك ما هو طبيعي بشكل خالص، كما ان فوكو في تحليله لخطابات الجنس والجريمة والمرض قام بتحليل تلك الخطابات من خلال الوثائق والنصوص وهي خطابات تحدد ما هو مسموح به وماهو غير مسموح، ان المسموح/مايجب فعله يعتمد في سلطته علي انه يمثل ما هو طبيعي بالنسبة للإنسان ولكن فوكو يكسر كل هذه السلطات ويحطمها فلم يعد هناك ما هو طبيعي ويعطي للخطاب سلطته في ظل فقدان معني أصلي، وديريدا ( علي الرغم من صعوبة وصفه بالبنيوي ) حين يقوم بقراءة النصوص من داخلها رافضاً البحث عن معاني للنص خارجه "تلك القراءة الكامنة" تتعامل مع النص ايضاً علي انه نظام من العلاقات يتحدد معناه من داخله فنحن لا نفسر النص من الواقع وانما نبحث عن الواقع داخل النص.

وهكذا نجد ان اللغة أصبحت هي المسيطرة علي الأفق الفلسفي في القرن العشرين

محمد سعد
ملتقى دروب الفكرى
تم عرض المقال فى جلسة28/9/09